المادة    
يقول رحمه الله: [وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب] أي: مجرداً أو في ذاته.
وليس معنى ذلك أن أي حديث أو سند يأتينا نقبله، أو أي خبر واحد نقبله حتى في غير الحديث، وإنما نرجع إلى من يميز، وأهل كل فن هم الذين يميزون فيما يتعلق بفنهم فعندما نقول: قاعدة مطلقة -مثلاً-: أنه لا يقبل في الطب ولا في الكيمياء ولا في الجغرافيا خبر الواحد فهذا خطأ، وإذا قلنا: يقبل خبر الواحد مطلقاً في هذا العلوم. أيضاً خطأ؛ لأن المرجع إلى أهل الفن، فأهل الفن قد يقبلون خبر الواحد وقد لا يقبلونه؛ لأنه شاذ، أي: أنه ثقة لكنه خالف الثقات، وعرفنا ذلك حينما تتبعنا واستقصينا أحاديث الثقات فوجدنا هذا قد خالفها، وبالتالي فالذي يدرك هذا، ويعرف أن هؤلاء ثقات، وأن الحديث خالف: أهل الفن والخبرة، وكما تقدم أن أهل الكلام أو أهل البدع من أجهل الناس بعلم الحديث فمثلاً: الجويني واضح جداً في كتبه، أيضاً المعتزلة من أبعد الناس عن الحديث، وكذلك الغزالي مع أنه فقيه، واشتغل بالأحكام كثيراً، إلا أن الذي يطالع الإحياء يجد فيه من الموضوعات والواهيات ما يعلم به أن الرجل غير متمكن في الحديث، بل ليس من أهله ولا من رجاله، وعليه فالذي يؤخذ كلامه في هذا هو الناقد الخبير، وهذا العلم قال: [ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث، والبحث عن سيرة الرواة ليقف على أحوالهم وأقوالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل] ولو أن أحداً قرأ في التهذيب مثلاً: قال الإمام أحمد عن فلان: ثقة، وقال البخاري : ثقة، فالكلمة هذه كأنها شيء عادي جداً، لكن كيف حكم الإمام أحمد عليه بأنه ثقة؟ كيف حكم البخاري في أنه ثقة أو أنه صدوق يخطئ أو أن له أوهاماً أو غير ذلك؟ لقد جاء هذا الحكم بعد التتبع الدقيق لأحاديثه، وعرضها أحاديث الثقات من أمثاله، والمقارنة والنقد والتمحيص والتمييز، وبالتالي فكلمة (ثقة، أو ضعيف، أو له أوهام) خلاصة بحث طويل مظني، فـأبو داود يسأل الإمام أحمد ، و مسلم يسأل البخاري ، وهكذا قد يكون الرجل تتبع أو سأل من تتبع، وكل هذه تدل على أن المسألة تحري وشدة دقة ومعرفة، وليس مجرد حكم مطلق أن يقال: إنه ثقة أو غير ثقة.
  1. فضل أهل الحديث وكونهم شهداء الله في أرضه

    فهؤلاء رضي الله تعالى عنهم كانوا من شدة حذرهم من الطغيان والزلل، ومن شدة عنايتهم وتجنبهم للطغيان حقاً، أنهم كانوا شهداء لله تعالى في أرضه، عدولاً فيما ينقلون وما يقولون، وهكذا أئمة الرجال وعلماء الحديث كانوا في غاية العدل، فيذكرون عبادتهم إن كان له عبادة، ويذكرون حفظه إن كان حافظاً متقناً، ومع ذلك يذكرون صدقه إن كان -مثلاً- صادقاً أو في صدقه شيء، ثم مع ذلك يقولون: كان فيه البدعة الفلانية، فلا يحيفون ولا يجيرون عليه، وإنما ينقلون الحقيقة كاملة، فيبينون ما له وما عليه، فيأتي الذي بعدهم وقد استطاع بهذا الميزان الدقيق أن يأخذ الرواية أو أن يردها؛ لأن الأمر أمامه واضح؛ ولذلك حتى لو كان الرجل ممن يكذب في الحديث لا يكتفون بأن يقولوا: إنه يكذب، وينتهي الأمر، بل إن كان له فضل في جانب آخر، كالزهد أو في أي عبادة، فإنهم يقولون: كان صاحب عبادة، ولكنه يضع الحديث، فهم أناس تجردوا عن أي نيل أو هوى أو تعصب، ولا يعني ذلك أن عبادته تنفعه مع كونه وضاع، لكن تنقل الحقيقة، ولا يعني ذلك أن صاحب البدعة ينفعه ثناء الناس عليه بالحفظ والعلم والإتقان عند الله تعالى، لكن ينقل أنه كان صاحب علم، أما إذا قيل: إنه لا خير فيه مطلقاً؛ لأنه صاحب بدعة أو ليس لديه علم، فلا، حتى لو كان شاعراً، فهذا الخطيب البغدادي والحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى يذكرون بعض الشعراء، كـأبي نواس و أبي تمام و الفرزدق وغيرهم، فيذكرون أن شعرهم في القمة، وكان في غاية الجودة، لكن يقولون: وكان قاذفاً -مثلاً- للمحصنات، أو كان فاسقاً، أو كان سكيراً، أو كان كذا، فما يظلمون أحداً شيئاً أبداً، فهؤلاء هم ميزان الأمة، إذ تستطيع أن تعرف حقيقة الأمة: مبتدعها وسنيها من كلامهم، بدون أي حيف ولا جور، فلا يأتون على إمام من أئمة أهل السنة فيقولون: كان إماماً من أئمة أهل السنة ، محارباً للبدع، وبالتالي فهو ثقة ثبت، وكل حديثه صحيح، لا؛ لأنه قد يكون من أئمة أهل السنة ، من المدافعين عنها، من المحاربين للبدع، لكن عنده أخطاء أيضاً، كأن يكون ضعيف الحديث مع إمامته، فيقال: ضعيف في الحديث، وهكذا ميزان لا نظير له على الإطلاق، ولذلك نحن نحاكم رجال الشيعة و المعتزلة و الخوارج و أهل السنة إلى هذا الميزان، نحاكمهم إلى ميزان علماء الجرح والتعديل من أئمة أهل السنة والجماعة ، لكن لو أننا تركنا هذا الميزان وجئنا إلى ميزان أهل البدع والعياذ بالله، فماذا نجد؟ الشيعي إذا كان رافضياً، وروى أحاديث في فضائل أهل البيت غريبة وشاذة، وفيها مبالغات وتهاويل، عظموه وقدسوه وبجلوه من أجل هذه الروايات!
    ولهذا قال بعض الأئمة: لو أنني أطعت الشيعة لملئوا بيتي ذهباً وفضة. أي: يقولون له: ضع أحاديث في فضل علي وإمامته، في فضل أهل البيت وغدير خم ، في سب الشيخين، فإذا فعل ذلك ملئوا بيته ذهباً وفضة، لكن حاشا أن يكون أحد من أئمة السنة كذلك [وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك] فلو قتل أحدهم قتلاً على أن يقول: إن هذا الكلمة موضوعة، لا يقبل أبداً، ولا يمكن أن يتسامح في كلمة توضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يقولها بنفسه ويزيدها من عنده وينسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم [وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم] وبالتالي هم الذين تحملوه وسمعوه فأدوه كما سمعوه، فنظر الله تبارك وتعالى وجوههم [فهم تزك الإسلام]، واليزك -كما ذكر المعلق- هي كلمة فارسية، وأظنها والله أعلم منقولة من كتاب حادي الأرواح ، وقد كانوا يرتبون الجيش منذ أيام المعتصم ، وأصبح القيادة للفرس، أي: تمكنوا من أيام المأمون ، ثم أيام المعتصم تمكنوا جداً، وأصبح الجيش بكل أنظمته على الطريقة الفارسية، وأسماء القادة والمراتب والعطايا والهبات وغير ذلك مأخوذة من الطريقة الفارسية، ومنها هذه الكلمة، فاليزك هم الطلائع والقادة المدافعون عنه، أي: كأنك قلت: هم حماة الدين، [وعصابة الإيمان، وهم نقاد الأخبار، وصيارفة الحديث، فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخَبَر -بفتح الباء- صدقهم وورعهم وأمانتهم ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه].
  2. علم أهل الحديث بأحوال وسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم

    قال رحمه الله: [ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم من العلم بأحوال نبيهم صلى الله عليه وسلم وسيرته وأخباره ما ليس لغيرهم به شعور] ولذلك مجرد أن يأتيهم أحد ويقول: النبي صلى الله عليه وسلم وقع له كذا أو حصل له كذا، فإنهم يكذبونه، لماذا؟ لعلمهم واطلاعهم على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله؛ ولهذا كتب كثيرة من الموضوعات في السير على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، بعض الفتوحات التي تروى في فتوح الشام و اليمن وغيرها لا يحتاج أحد من علماء السنة والسيرة أن يمحص ويدقق ليحكم أنها موضوعة، بل أول ما يراها يحكم أنها موضوعة؛ لأنه واضح أن فيها أموراً معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها، ولم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم؛ لدقة وشدة معرفتهم بأحواله صلى الله عليه وسلم، فيجزمون بأن هذا الشيء لم يكن ويردونه، بل ربما أخذ أو كان مما انتقد على بعض الثقات الأثبات في حديثهم أنه نقل أمراً وهو مخالف لما هو معلوم متواتر من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كاختلاف بعض الروايات مثلاً، مثل: متى كانت غزوة الأحزاب - الخندق - أو ما أشبه ذلك؟ فترد بعضها بناءً على المعرفة اليقينية القطعية بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل هؤلاء الرجال، الأئمة المتحرين المتثبتين من وقائع حياته صلى الله عليه وسلم وكذلك حديثه، يقول: ما ليس لغيرهم به شعور، [فضلاً أن يكون معلوماً لهم أو مظنوناً]. أي: لديهم من اليقين ما لا يشعر به غيرهم، فضلاً أن يكون معلوماً أو مظنوناً لديه، ثم قال رحمه الله: [كما أن النحاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم] فلو أنك قلت بيتاً من الشعر لـأبي العلاء المعري أو المتنبي وقلت: هذا البيت ذكره سيبويه في الكتاب ؛ فإن أي عالم من علماء النحو يقول مباشرة: هذا البيت لا يمكن أن يكون موجوداً في كتاب سيبويه ، ولو جئت إلى مسألة من مسائل النحو المتأخرة بعد سيبويه بمائة سنة وقلت: هذه المسألة ربما تكون في الكتاب ، يقول: هذه لا يمكن أن تكون في كتاب سيبويه، ويجزم بذلك؛ لأنه واثق، فقد عرف الكتاب وخبره، وعرف سيبويه ونقله، وكذلك الخليل بن أحمد ، وهو كما هو معلوم من أئمة اللغة، وكان أئمة اللغة الأوائل على مذهب أهل السنة والجماعة والحمد لله، مثل: الخليل و الكسائي و النضر بن شميل وغيرهم كثير، ثم بعد ذلك قع فيهم ما وقع، حتى أبو عبيدة صاحب مجاز القرآن لم يكن على مذهبهم، إنما المجاز عنده معنى من معاني القرآن وليس مجازاً بالمعنى الذي وضعه المعتزلة.
    فالمقصود: أن النحاة يعلمون أخبار أئمتهم من شدة قراءتهم وتحريهم لأخبارهم، وهكذا أهل كل علم، [وعند الأطباء من كلام بقراط و جالينوس ما ليس عند غيرهم]، وهما من أطباء اليونان ، فالأطباء من العرب ومن المسلمين حتى من المعاصرين الآن من كان لديه خبرة بهذا الطب وقلت له: هذا الكلام نقله بقراط ، أو قاله جالينوس ، يستطيع أن يجزم أن هذا الكلام لم يقله، ويستطيع أن يميز هل هو من كلامه أم ليس من كلامه؛ لخبرته في مجال الطب، وهكذا في الجغرافيا أو الكيمياء أو الفيزياء أو الهندسة أو أي فن آخر؛ ولذلك من عرف الفن، وعرف أهله، وتتبع أقوال أئمته، يستطيع أن يجزم بأن هذا ثابت، أو هذا غير ثابت، فنقول: فكذلك أئمة الحديث. أي: لا نأخذ كلامنا من إمام في البلاغة مثلاً، وإن كان في هذا الفن إماماً أو عالماً، فلا نأخذ كلامه في الحديث؛ لأنه ليس من أهله، فلا يصح أن يؤخذ كلام أهل الكلام في أهل الحديث ولو كانوا تقاةً صالحين، فكيف وهم المبتدعة المذمومون الذين توعدهم الأئمة بما توعدوا به، وردوا كلامهم؟ يقول: [وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره، فلو سألت البقال عن أمر العطر، أو العطار عن البز، ونحو ذلك.. لعد ذلك جهلاً كثيراً] وهذا أمر معروف في حياة الناس، إذ إنما يسأل الناس بحسب ما يطلعون عليه وما يعلمونه وما يفقهونه، فلا يؤخذ كلام أحد منهم في غير مجاله وفنه كما ذكر من الأمثلة وهي واضحة.